3-سورة الحشر سبب تسميتها

441

3-سورة الحشر سبب تسميتها

سبب تسمية سورة الحشر

سُمِّيت سورة الحشر بهذا الاسم للحديث عن الحَشر وورود هذا اللفظ فيها، ولأنَّه ورد فيها ذِكر حَشر بني النَّضير، إذ إنَّ هذه السُّورة نَزلت عقب إخراج بني النَّضير من المدينة إلى الشَّام في السَّنة الرَّابعة من الهجرة فاشتُهرت هذه السُّورة باسم “سورة الحشر ” لقوله -تعالى- فيها: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)، والمراد بالحشر حشران؛ الحشر الأوَّل هو جمع بني النَّضير وإخراجهم من المدينة المنورة إلى الشَّام في عهد النبوَّة، والحشر الثَّاني المراد فيه إجلاؤهم من خيبر إلى الشَّام في عهد عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه-


وتُسمَّى سُورة الحشر أيضاً باسمٍ آخر وهو: سُورة بني النَّضير، وهو الاسم الذي أَطلقه ابن عباس -رضي الله عنه- لئلَّا يُظَنّ أنَّ المَقصود بالحَشر يوم القيامة ؛ ويظهر هذا في قوله -تعالى- فيها: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)؛  أي إنَّ المقصود بالحَشر هو إخراج بني النَّضير، وقد ورد في الأثر عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه- أنَّه قال: (قُلتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الحَشْرِ، قالَ: قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ).

التعريف بسورة الحشر

سورة الحَشر: هي السُّورة التَّاسعة والخمسون بحسب الرَّسم القرآني، وهي سورة مدنية ؛ أي أنَّها نزلت في المدينة المُنوَّرة  ونزلت سُورة الحشر في بني النَّضير فسمَّاها ابن عباس -رضي الله عنه- بسورة النَّضير،  ونزلت سُورة الحشر بعد سورة البيِّنة وقبل سورة النَّصر، أي أنَّها من أواخر السُّور التي نزلت على الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- من السُّور القرآنيَّة؛ حيث تُعدُّ السُّورة الثامنة والتسعون في ترتيب النُّزول، ويبلغ عدد آياتها أربعٌ وعشرون آية، وكلماتها سَبعمئةٍ وخمسٌ وأربعون كلمةً، وحروفها ألفٌ وتسعمئةٍ وثلاثةَ عشر حرفاً.


تبدأ السُّورة بتنزيه الله -تعالى- عن كلِّ ما لا يَليق بهِ، ثمَّ تتحدَّث عن بني النَّضير، ونُصرة الله -تعالى- لعباده وهَزيمته للكافرين، وبعدها يتمُّ التَّحدُّث عن أموال بني النَّضير التي خلَّفوها وراء ظُهورهم عَقب إجلائهم، وطريقة تقسيمها وحكمة الله -تعالى- في تلك الطَّريقة، حيث قال -تعالى-: (مَّا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ)،  ثمَّ مَدح الله -تعالى- المهاجرين على عفَّة نُفوسهم في قوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)،  

ومدح الأنصار  على كرمهم ونَقاء قُلوبهم بقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).


وتذكر السُّورة أيضاً حال المنافقين والتَّعجّب منهم، حيث قاموا بالتَّحالف مع اليهود ضدَّ المؤمنين، وذكرت بعضاً من أقوالهم ووعودهم الكاذبة، ثمَّ يوجِّه الله تعالى المُؤمنين في أواخر السُّورة للتَّمسك بتقوى الله -تعالى-، والنَّهي عن التَّشبُّه بالفاسقين وبيان عاقبة ذلك، وتُختَتم السُّورة بذكر عددٍ من أسماء الله -عز وجل- وصِفاته.

مناسبة سورة الحشر للسورة التي قبلها

وفيما يتعلَّق بمناسبة سُورة الحشر مع ما قبلها -سُورة البيِّنة-، فقد ورد في سُورة البيِّنة حال المنافقين  واليهود وكيف أنَّهم تَولَّوا بعضهم بعضاً، وفي سورة الحشر بَيان لنتيجة هذا التَولِّي بينهم، وأنَّه باء بالخُسران ولم يَعد على أيٍّ منهم بالفائدة؛ حيث حلَّ على اليهود غضب الله -تعالى- وإجلاؤهم من المدينة إلى الشَّام، ومكَّن الله -تعالى- الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- ممَّن غدر به من المنافقين، فخسر كِلا الطَّرفين، وكان النَّصر حَليف المؤمنين.

موضوعات سورة الحشر

نزلت سُورة الحَشر في غَزوة بني النَّضير، حيث نقض يهود بني النَّضير عهدهم مع الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد كانوا يَسكنون في  المدينة المنورة بناءً على هذا العهد، فأمرهم الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يخرجوا من المدينة بعد أن نَقضوا العهد فرفضوا ذلك، وقام رأس المنافقين عبد الله بن أُبيّ بتشجيعهم على عدم الخُروج من المدينة، واتَّفق معهم على أن يقاتل بجانبهم إن قاتلهم الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وأن يَخرج معهم هو ومن معه إن أُخرجوا من المدينة، فقام المُسلمون بحِصارهم، وقَبلوا بعد الحِصار بالخروج من المدينة، ولهم أن يَحملوا من أمتعتهم وأموالهم ما تَستطيع الإبل حَمله باستثناء أدوات الحرب.


وقام المنافقون بالغَدر مرَّة أُخرى باليهود  بعد أن غدروا بالمسلمين في المرَّة الأُولى، ولم يَقوموا بتنفيذ أيٍّ من وُعودهم، فلم يَخرجوا معهم كما وعدهم عبد الله بن أُبي سابقاً، فكانت نتائج الموالاة بين الأعداء والمنافقين وَخيمة على كلِّ أطرافها، وهناك علاقةٌ بين البِدء  بتسبيح الله  -تعالى- في بداية السُّورة وما احتوت عليه من مَواضيع؛ إذ يُشير الله -تعالى- إلى أنَّ كلَّ ما في السَّموات والأرض يَقوم بتسبيح الله -تعالى-، وأنَّه سُبحانه عزيزٍ حكيم، وفي هذا تمهيدٌ لما أراده من بَيان فَضله على المسلمين في هذه الغزوة، وأنَّه تَفضَّل عليهم بإخراج بني النَّضير، وقد ظنَّ المسلمون أنَّهم لن يخرجوا، وظنَّ اليهود أنَّ حُصونهم ستَمنعهم وتحميهم، فقام الله -تعالى- بقذف الرُّعب في قُلوبهم ليجبرهم على الجَلاء.

أطول اية في القران الكريم


وبيَّن الله -تعالى- بعد ذلك الحِكمة مما أفاءه عليهم من الغَنائم وكيفيَّة توزيعها بينهم؛ فيكون جزءٌ منها لله -تعالى- ورسوله -عليه الصلاة والسلام- يُنفق في إعمار المساجد، وجزءٌ لذَوي القُربي، وجزءٌ لليتامى، وجزءٌ للمساكين، وجزءٌ لابن السَّبيل، ولا يأخذ الأغنياء منه شيء وإنَّما يأخذه الفُقراء من المهاجرين تعويضاً لهم على هِجرتهم وتضحيتهم بأموالهم، وبيَّن الله -تعالى- في السُّورة أيضاً عَظيم شَأن  القران  وأنَّه لو أُنزل على جبلٍ لتصدَّع من خَشية الله -تعالى-، إلى أن اختتم السُّورة الكريمة بذكر بعض من أسمائه وصفاته، لتتشكَّل لدينا في النِّهاية سُورةٌ غنيَّة بالمواضيع والتي اشتملت على بعض التَّشريعات والحِكمة منها، والأخلاق الحَميدة والحثِّ عليها، والأخلاق المَذمومَة والتَّنفير منها، وذِكرٌ لعددٍ من أسماء الله الحسنى  -تعالى- وصفاته.

فضل آخر سورة الحشر

فضل آخر سورة الحشر

فضل قراءة آخر سورة الحشر

وردت عدد من الأحاديث في فضل قراءة آخر آيات سورة الحشر؛ ففي الحديث الذي يروى عن النّبي عليه الصّلاة والسّلام قوله (من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكّل ‏الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتّى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)، والحقيقة أنّه لم يصحّ حديثًا عن النّبي الكريم في فضائل قراءة سورة الحشر لأنّ أسانيدها ضعيفة .

خصال لليهود مذكورة في سورة الحشر

اشتملت سورة الحشر على ذكر خصالٍ لليهود ومنها جبنهم، وكيف أنّهم لا يقاتلون إلاّ في قرى محصّنة أو من وراء جدر، وأنّهم تظهر عليهم وحدة الكلمة والموقف، والحقيقة أنّ قلوبهم شتى.

عداوة اليهود للرسول

منذ أن بعث الله سبحانه وتعالى نبيّه محمّد عليه الصّلاة والسّلام بالرّسالة واليهود يُضمرون له العداوة والبغضاء ويتحيّنون الفرص بين الحين والآخر للنّيل من الدّعوة الإسلاميّة والمسلمين، وقد حملهم على ذلك الحسد والبغضاء التي ملأت قلوبهم وصدورهم؛ إذ كانوا يتمنّون أن يكون نبيّ آخر الزّمان منهم، وقد كانوا قبل أن يبعث النّبي يتحدّثون كثيرًا أمام العرب بشأن هذا النّبي ويزعمون اصطفاءه من بينهم، وقد خابت أمانيهم حينما شاء الله أن يصطفي النّبي محمّد عليه الصّلاة والسّلام من العرب وتحديدًا من بني هاشم.

مخطّطات يهود بني النّضير لقتل النّبي الكريم

عندما هاجر النّبي الكريم إلى المدينة المنوّرة وجد اليهود يساكنون أهلها من الأوس والخرزج، وقد ساء اليهود مقدم النّبي إلى المدينة وسعوا لإشاعة الفتن والقلاقل باستمرار بين مكوّنات الدّولة الإسلاميّة الوليدة، وعلى الرّغم من أنّ النّبي الكريم عقد معهم معاهدات على أن لا يقاتلوه ولا يمالؤوا أحدًا على المسلمين، فقامت بنو النّضير وهم من يهود المدينة بحبك مؤامرة لقتل النّبي عليه الصّلاة والسّلام، وقد تناهى إلى مسامع النّبي عليه الصّلاة والسّلام نيّة بني النّضير قتله فأخذ حذره وأفشل مخططهم في مهده .

إجلاء بني النّضير

بعد إفشال مخطط بني النّضير توجّه النّبي عليه الصّلاة والسّلام بجيش المسلمين لحصارهم، وقد ظلّ محاصرًا لهم حتّى نزلوا على حكمه، فقد سمح لهم النّبي الكريم بالجلاء من المدينة المنوّرة والرّحيل عنها والنّجاة بأنفسهم ولهم ما أقلّت الإبل ما عدا السّلاح، وقد رحلوا وهم يجرّون أذيال الخيبة والهزيمة وكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم حتّى يستفيدوا من خشبها، وقد نزلت الآيات الأولى من سورة الحشر في خبرهم وقصّتهم.

أسباب نزول سورة الحشر

أسباب نزول سورة الحشر

ورد أنّ سبب نزول سورة الحشر أنّه متعلّقٌ ببني النضير، حيث إنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- لمّا ذهب إلى المدينة المنورة تعاهد معه بنو النضير على ألّا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل الرسول -عليه السلام- بذلك، وعندما انتصر المسلمين في غزوة بدر على المشركين أيّدوه بني النضير وصدّقوه برسالته، إلّا أنّ هزيمة المسلمين في  غزوة اوحد  كانت سبباً في نقض بني النضير لعهدهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعادوه، فما كان من النبي -عليه السلام- إلّا محاصرتهم ومصالحتهم على الجلاء من المدينة المنورة.

التعريف بسورة الحشر

سورة الحشر أو سورة بني النضير سورةٌ مدنيةٌ من المفصّل، تتألف من أربعةٍ وعشرين آيةً، ترتيبها التاسع والخمسين، كان نزولها بعد نزول سورة البينة، وتقع في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف، في الحزب الخامس والخمسين منه، بدأت بالتسبيح والثناء على الله تعالى، واسم: “الحشر” أحد أسماء يوم القيامة، وسميتن بذلك؛ لأنّ الله -تعالى- يجمع الناس ويحشرهم  يوم القيامة لمحاسبتهم على أعمالهم التي قدّموها في حياتهم الدنيا، كما حشر اليهود خارج المدينة المنورة.

تأملاتٌ في سورة الحشر

تضمّنت سورة الحشر العديد من الدروس والعِبر والتأملات المهمّة، وفيما يأتي بيان جانبٍ منها:

  • كلّ ما في الوجود يسبح الله -تعالى- وينزهه، وإن لم تُدرك كيفية  التسبيح .
  • أخرج الرسول -عليه الصلاة والسلام- يهود بني النضير من المدينة المنورة؛ جزاءً لما بدر منهم من همّهم بقتل الرسول عليه السلام.
  • أمر الله -تعالى- المسلمين بقطع النخيل وإحراقه، ولم يفعل المسلمون ذلك من تلقاء نفسهم، والحكمة من الأمر بذلك إذلال اليهود على ما كان منهم من الغدر والخيانة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الاعتداء على النبات في الحرب ليس من المبادئ المقرّرة في الشريعة الإسلامية، وذلك كان في حالةٍ خاصةٍ بأمرٍ من الله سبحانه.

صفات المهاجرين والأنصار في سورة الحشر

صفات المهاجرين والأنصار في سورة الحشر

صفات المهاجرين في سورة الحشر

الصفات التي تميّز بها المهاجرون عديدة، وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- بعض هذه الصّفات في سورة  الحشر ، وفيما يأتي بيانها:

  • فقراءٌ يستحقّون الغنائم والصّدقات: يُعدّ الفقر أوّل صفةٍ للمهاجرين، حيث لا أرض ولا مورد لهم، كما أنَّ الأنصار تنازلوا عن حقّهم في أموال بني النّضير للمهاجرين بعد مشاورة الرسول لهم، فتمّ تقسيم الأموال بين المهاجرين فقط باستثناء ثلاثة من الأنصار لفقرهم، وكان ذلك عن طيب خاطرٍ من الأنصار،  حيث إنَّ خروج الأنصار من وطنهم لم يكن إلّا نصرة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن شدّة فقرهم وحاجتهم كانوا يربطون الحجر على بطونهم؛ حتّى لا يشعروا بمرارة الجوع.
  • مضطهدين عُذِّبوا وأُخرجوا من ديارهم: خرج المهاجرون من ديارهم جبراً من قبل كفار  مكة  طلباً لرضوان الله -تعالى- ونصرة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان فعلهم لا يدلّ إلا على صدق إيمانهم الكامل، ورغبتهم في مرضاة الله -تعالى-، فظهر أثر اليقين الذي في قلوبهم على عملهم، كما أنَّ العطاء -الغنائم والصدقات- كان جبراً لهم لانكسار قلوبهم بسبب ضياع أموالهم بعد اضطهادهم وخروجهم من ديارهم.
  • يطلبون فضل الله -تعالى- في الدنيا والآخرة: وصف الله -تعالى- المهاجرين في سورة الحشر بصدق نواياهم، وطهارة قلوبهم، وحرصهم على نيل رضوان الله -تعالى- في الدنيا والآخرة، وبالغ الله في وصف صدقهم، وذلك من خلال حصر الصدق فيهم، فقد قال -تعالى-: (أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، فهم استحقّوا لقب  الصدق  في فعلهم هذا، وهذا فيه تعظيم لشأنهم، فالصادق هو من كان فعله مطابقاً لقوله، وهذا بالفعل ما فعله المهاجرون -رضي الله عنهم-.

صفات الأنصار في سورة الحشر

الصّفات التي تميّز بها  الأنصار  عديدة، وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- بعض هذه الصّفات في سورة الحشر، وفيما يأتي بيانها:

  • الأنصار هم أهل المدينة قبل قدوم المهاجرين إليها: وذلك بدليل كلمة “التبوّؤ” التي تدلّ على التّمكّن في المكان واللّزوم فيه، كما أنَّهم كانوا على  الأيمان  قبل قدومهم، فقد قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ)، فهم أهل الإخلاص والإيمان ودارهم هي دار الهجرة .
  • المهاجرون نالوا محبّة الأنصار لهم: وذلك للتّوافق فيما بينهم بالصّفات والإيمان والصّفاء، فحمل الأنصار عن المهاجرين ما أهمّهم، وكانوا اليد اليمنى لهم في مواساتهم وتقديم العون لهم، فقد قال -تعالى-: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ).
  • الأنصار هم من تخلّوا عن حظّهم في الحياة الدنيا: فلم يدخل في قلبهم مثقال ذرّة من حسدٍ تجاه ما أوتي المهاجرين، فقد قال -تعالى-: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا)، وهذا لترفّع أنفسهم عن دنايا الأمور وصغائرها، وطهارتهم من أسقام القلوب، فالبذل والكرم والعطاء أمرٌ ملازمٌ لفطرتهم، وهذا من عزّة نفوسهم وكمال إيمانهم
  • الإيثار صفةٌ ملازمةٌ للأنصار في حياتهم: حيث كان الواحد منهم يُؤثِر غيره من الصحابة على نفسه رغم فقرهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه، فقد قال -تعالى-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، فكانت يد العطاء عندهم سبَّاقةٌ للخير رغم تساوي الحال بين الأنصار والمهاجرين في الحاجة والفقر، فالخصاصة هي الخلّة، واستخدامها هنا كناية عن سوء الحال والفقر، فكانوا يقدّمون ما يحتاجونه لغيرهم رغم حاجتهم له، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أفضلُ الصدقةِ جَهْدُ الْمُقِلِّ)، فالصدقة من صاحب الحاجة أفضل مِن صدقة من لا حاجة له فيها.

وممّا يُثبِت ذلك قصّة الأنصاري والضّيف عندما جاء رجلٌ فقير إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وكان الرجل فيهم لا يتكلّم إلا إذا أصابه الجهد الشديد الذي لا يُطاق، فسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَن يُضِيفُ هذا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ)،  فقام رجل من الأنصار ملبّياً طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ الضيف معه إلى داره و أكرمه رغم قلة قُوتِه، فلم يكن عنده إلا ما يكفي أولاده،

فقال الرجل لزوجته بشأن ما تصنع مع أطفالهم الجوعى: (فَعَلِّلِيهِمْ بشيءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فأطْفِئِ السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ، فَقُومِي إلى السِّرَاجِ حتَّى تُطْفِئِيهِ، قالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ). ففعلت الزوجة ما أمرها به زوجها، وأكل الضيف، وبات الزّوجان من غير أكلٍ هم وأطفالهم، فآثر كِلا الزّوجين إكرام الضيف الجائع على جوعهم؛ ابتغاءً لما عند الله -تعالى- من الخير والثواب،  وفي الصباح انطلق الرجل ليُخبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بما حصل، فقال -عليه الصلاة و السلام-: (قدْ عَجِبَ اللَّهُ مِن صَنِيعِكُما بضَيْفِكُما اللَّيْلَةَ).

بعض النماذج الواقعية من صفات المهاجرين والأنصار

تعدّدت المواقف التي تجلّت فيها أخلاق المهاجرين والأنصار، وفيما يأتي بيان أمثلة ونماذج واقعية على ذلك:

  • مثالٌ على فقرهم وحاجتهم والتّضحية في سبيل الله -تعالى-: كان المهاجرون من أكثر الصحابة الذين عانوا الفقر، فتركوا ديارهم وأوطانهم، وكان الرجل منهم يربط بطنه بالحجارة حتى يخفّف عنه ألم الشعور بالجوع، لذلك حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حتى يخفّف عنهم ألم الغربة والبعد عن الديار والمَسْكن، ليبعث في قلوبهم السكينة والراحة وأنّهم بين أهلهم، وبهذا تجلّت مظاهر الأخوة والإنسانيّة.
  • مثال على الإيثار عند الأنصار: وصل الأنصار إلى درجةٍ عاليةٍ من الرّفعة في أخلاقهم وتعاملهم مع غيرهم، فكانت صفة الإيثار صفةً ملازمةً للأنصار، فعندما جاء المهاجرون إلى المدينة استقبلوهم بكلّ صدرٍ رحب، وشاركوهم في أموالهم ومنازلهم وجميع ممتلكاتهم، وكل ذلك يدل على إيثارهم وسخاء نفوسهم، وصدق إيمانهم ومحبتهم لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
  • مثال على سلامة نفوسهم وكرمهم: استقبل الأنصار أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- لهم في المؤاخاة بينهم وبين المهاجرين بمحبّةٍ غامرة، ولم يعترضوا على ما أمرهم به، فكانوا للمهاجرين إخواناً وأعواناً.
  • من أمثلة محبة الأنصار للمهاجرين: القصة التي حدثت بين سلمان الفارسي  مع أبي الدرداء عندما وجد امرأته أم الدرداء رَثّة المنظر والثياب، فكانت لا تعتني بهيئتها في حضور زوجها، فسألها عن السّبب، فأجابته بأنَّ أبا الدرداء مُعرضٌ عن الدنيا وما فيها، فما كان من سلمان إلا أن فرّغ يومه لحلّ مشكلة أخيه ، فعندما حضّر أبو الدرداء الطعام لسلمان وقدَّمه له طلب سلمان منه أن يفطر؛ لأنَّه علم حاله من زوجته بأنَّه يصوم دائماً ولا يُفطر.

وعندما جاء وقت قيام اللّيل قام أبو الدرداء ليصلي، فأمره سلمان بالنوم، وبقي يأمره بذلك إلى قبل الفجر بقليلٍ وصَلَّيّا معاً، ثم قال له سلمان: (إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)، وعندما وصل الخبر للرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: (صَدَقَ سَلْمانُ)،  فأراد سلمان أن يعطيه درساً يخبره به أنّه لا بد من التّوازن في أمور الدّنيا والدّين، فلا ينبغي له أن يُنهِك نفسه بالصيام والقيام، فلا بدّ من الاعتدال على وجهٍ يحصل به الخير، ويزول به التعب والمشقة.

  • حادثة الميثاق: عندما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وضع ميثاقاً يُنظّم فيه العلاقة بين  المهاجرين والأنصار من جهة، وبين غيرهم من الناس من اليهود من جهة أخرى، وكان السبب وراء ذلك رغبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تثبيت دعائم الأخوّة في الدولة الإسلامية، لأنَّ المؤاخاة وحدها لا تكفي لتنظيم العلاقة بينهم، فلا بدّ من قانونٍ ودستورٍ يُنظّم العلاقة بين جميع الأطراف، فكان أساس هذا الميثاق توحيد العلاقة بينهم وأنَّ المهاجرين والأنصار من أمّةٍ واحدة، لترسيخ مشاعر الأخوة بينهم.

بالإضافة إلى محو مشاعر رفعة بعضهم على بعض، فتنتشر الألفة والمحبة بين الضعيف والقويّ، بالإضافة إلى محو العصبيّة الجاهلية ، وبالمؤاخاة تخلّى الأنصار عن المشاكل التي كانت تسود بين قبائلهم الأوس و الخزرج ، فحققّت المؤاخاة في قلوب المؤمنين الألفة والمودّة، وكان للميثاق دورٌ كبير في تجميع المسلمين على دستورٍ وقانونٍ واحدٍ، وتأليف قلوبهم جميعاً.